24 أكتوبر 2020

إنها تحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

 

الحمد لله على نعمه العظيمة ، وأفضاله الجليلة ، ومننه المتوافرة المتتابعة ، والصلاة والسلام على نبينا الكريم وآله وصحبه أجمعين...

أما بعد :

فقد كان الناس رجالا ونساء قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام يعيشون في جاهلية عظيمة ، فجاء الله بالخير العظيم على يد سيد الثقلين عليه الصلاة والسلام ، فانتقل الناس بفضل الله من الظلمات إلى النور ، وتغيرت أحوالهم وتبدلت أمورهم ، وبعد أن كانوا يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار أقبلوا على توحيد الرب المعبود جل جلاله ، وبعد أن كان القوي يأكل الضعيف فتضيع الحقوق وتسفك الدماء وتنهب الأموال علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة والبركة والخير ، وبعد أن كانت المرأة في الجاهلية تُظلم ظلما بيّنا حفظ الإسلام لها كرامتها فالنساء شقائق الرجال ، وأعد الله لهن مغفرة وأجرا عظيما إن تمسكن بما أمر الله واتبعن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمرأة الموفقة تحرص غاية الحرص على طاعة ربها ومتابعة سنة نبيها صلى الله عليه وسلم ، فهي تعلم علم اليقين أن من أشرف وأجل الأعمال محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، ففي الحديث الصحيح : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" وهذا الحديث النبوي يشمل الرجال والنساء ، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا " فهنيئا لمن عمل بهذا الحديث.

وفي القرآن الكريم والسنة النبوية توجيهات وتشريعات تتعلق بالرجال والنساء وبعضها خاصة بالرجال وبعضها خاصة بالنساء ، ومن الأحكام الشرعية التي تختص بها المرأة : لبس الحجاب الشرعي وعدم التبرج ، فالمسددة حقا وصدقا تلتزم بما أمره الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون . ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ).

فأحيانا قد تشق بعض الطاعات على النفس فإن لاح لها أن الأمر دين وفيه إرضاء لله هانت جميع هذه الصعوبات ، فالله تعالى يقول في كتابه العظيم : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) ويقول أيضا : ( ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن ) وقال : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) فالحريصة على دينها تعلم أن الحجاب فرض شرعي على النساء فهي تتقرب إلى الله بأداء عبادة أوجبها الله ، وهذه العبادة كسائر الفرائض يلزم بها الإنسان من جانب الشرع والدين ، فإن أراد السلامة من الآثام فعليه فعل هذه القرب والعبادات ، ومن تركها وقع في الإثم لتركه ما أوجب الله عليه ، وفي الآيات السابقة بيان حرمة تبرج النساء كتبرج نساء الجاهلية ، ونهي للمرأة عن لفت أنظار الرجال أثناء المشي وكذلك الأمر بستر البدن بالحجاب ، وإذا كان الشرع فيه هذا التوجيه الدقيق : ( ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن ) فكيف بخروج المرأة عند غير محارمها كاشفة لشعرها ومواضع أخرى من بدنها؟!

وما أطيب أن تطبق المرأة هذه القاعدة القرآنية عند غير محارمها ( ولا يبدين زينتهن ) ، ومن جميل الآثار المروية أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب رقاق عتاق بعدما كف بصرها، قال: فلمستها بيدها ثم قالت: أف ردوا عليه كسوته، قال: فشق ذلك عليه وقال: يا أمه إنه لا يشف، قالت: إنها إن لم تشف فإنها تصف.

فأسماء رضي الله عنها ردت ثيابا لأنها تصف بدن المرأة دون أن تكون شفافة خفيفة فكيف بثياب تظهر مواضع كثيرة من بدن المرأة لقصرها؟!

وحري بمن تطلب الأجر والثواب أن تتقرب إلى الله بلبس الحجاب الشرعي فلا تظهر ذراعها وساقها وغير ذلك أمام غير محارمها.

ومن التوجيه الشرعي للنساء بأن لا يخرجن متعطرات متزينات فعند أبي داود بسند حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا. قال قولا شديدا.

وقال عليه الصلاة والسلام : أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة.

فمنعها من حضور الصلاة وهي متعطرة فكيف بخروجها عند غير محارمها متعطرة ؟!

ومن النساء اللاتي ذمنهن نبينا عليه الصلاة والسلام : الكاسيات العاريات : فلباسها ضيق يجسد البدن أو قصير لا يستر البدن أو يلفت أنظار الرجال إليها لزينته.

ولنتأمل في حال نساء الرعيل الأول وهن الصالحات العابدات فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية.

ومهما تكلم بعضهم عن الحجاب وخفف من شأنه فصاحبة الدين لا تخالف أوامر القرآن والسنة التي أمرت بالحجاب ونهت عن التبرج ، ولو وقعت بعض الأخوات في شيء من التساهل في الحجاب فإنها تبادر بترك المخالفة مع التوبة الصادقة لأنها تحب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وتعلم بأن المرء يوم القيامة يكون مع من أحب بإذن الله...

وأرجو أن يكون في هذه الكلمات حث للأخوات الفاضلات على التمسك بالحجاب الشرعي ، وتذكير لبعض الأخوات بضرورة العودة إلى لزوم الحجاب...

 

اللهم اهدنا وسددنا ووفقنا

اللهم آمين

 

 

29 سبتمبر 2020

الانشغال بالعلم في الأوقات الصعبة

 


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

فمن يقرأ في كتب التاريخ يجد أن الظروف الصعبة والأحداث العظام عصفت بمختلف مناطق العالم الإسلامي ، فأحيانا يتسلط أهل الشر وتقوى شوكتهم ، ومن أمثلة ذلك : صالح بن محمد الترمذي ، قال ابن حبان عنه في المجروحين : "كان رجل سوء ، مرجئا جهميا داعية إلى البدع ، يبيع الخمر ويبيح شربه ، وقد رشى لهم حتى ولوه قضاء ترمذ ، فكان سيفا على أهل الحديث ويؤدب من يقول الإيمان قول وعمل ، حتى أنه أخذ رجلا من الصالحين من أهل الحديث فجعل الحبل في عنقه وأمر أن يطاف به في الناس فينادى عليه ، وكان الحميدي يقنت عليه بمكة ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي إذا ذكره بكى من تجرئه على الله عز وجل".

ومن هذه الأمثلة أيضا : عضد الدولة فناخسرو بن حسن بن بويه الديلمي ، فهو قائل هذا البيت القبيح الشنيع في مدح نفسه :

عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر

نعوذ بالله من غضبه

قال الحافظ الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء : " فنحمد الله على العافية ، فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق، وبالأعراب القرامطة فالأمر لله تعالى ".

ومع هذه الأحداث الجسمية أقبل السلف الصالح على تعلم الخير وتعليمه ، فلم تثنهم هذه الظروف عن نشر العلم والإقبال عليه ، ففي المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي : " قيل لعبد الله بن المبارك: لو قيل لك لم يبق من عمرك إلا يوم ما كنت صانعا؟ قال: كنت أعلم الناس ".

وهذا الجواب من دقيق فقه ابن المبارك رحمه الله ، فمن علّم الناس العلم ظفر بالأجر المتتابع المتواصل الذي لا ينقطع بموت صاحبه بإذن الله تعالى.

ومن جميل عبارات السلف في بيان شدة الانشغال بالعلم أنهم قالوا في ترجمة الحافظ الكبير أبي طاهر السلفي : " كان ببغداد كأنه شعلة نار في تحصيل الحديث " ، وقيل في ترجمة أبي حامد الإسفراييني: "وأقام ببغداد مشغولا بالعلم حتى صار أوحد وقته " ومن عجائب ابن حجر أنه أقام بدمشق مائة يوم فسمع فيها ألف جزء حديثي والجزء تقريبا في عشرين ورقة.

فهذه الهمم العظيمة من هؤلاء الأعلام تذكرنا بأهمية الانشغال بالخير والعلم في هذه الأيام خاصة ، فنحن في عصر فورة مواقع التواصل الاجتماعي ، والصوارف العظيمة ، فقد تمضي علينا الأوقات الكثيرة ونحن ننظر في هواتفنا ، والعمر يمضي ، والموفق من اغتنم فراغه في الطاعات ولم ينشغل عن الخيرات ، فمن الصور المؤلمة في أيامنا انصراف بعضهم عن الخير وعن الجدية في طلب العلم ، فجل قراءته في العلم إنما هي تغريدات وتعليقات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ، ولو سألت بعضهم عن آخر كتاب قرأه لما وجدت منه جوابا ، وحجة كثير من الناس :ضيق الوقت وتزاحم المشاغل ، ولو حسب الواحد منا عدد الدقائق التي تمضي في متابعة ما يجري هنا وهناك من خلال الأجهزة الذكية لوجدنا أن الوقت فيه سعة وزيادة أيضا!

والأدهى من ذلك كله انشغال بعض أهل الخير عن العلم والتعليم ونشر الخير إلى الإغراق في مسائل السياسة فأصبحت حساباتهم سياسية أو دنيوية ، فلا تجد فيها الآيات والأحاديث وأقوال السلف والدعوة إلى التوحيد والسنة...

فالله الله في نشر العلم والخير والسنة والتوحيد وعلينا أن نثبت على ذلك ، فمن أراد الخير فعليه بالعلم والعمل والتعليم ، فالأيام تمضي ، والموت يأتي بغتة ، ومن جميل كلمات السلف الصالح ما علقه البخاري في صحيحه عن ربيعة بن عبدالرحمن رحمه الله:" لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه".

 

فاللهم استعملنا في طاعتك وثبتنا على دينك

آمين

28 أبريل 2020

إنها الدنيا



قال المقري في كتابه نفح الطيب عن الخليفة الأموي القوي عبدالرحمن الناصر الأندلسي ، والمتوفى سنة 350هـ : " وحكي أنه وجد بخط الناصر رحمه الله أيام السرور التي صفت له دون تكدير : يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ، ويوم كذا من كذا ، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما " ثم قال المقري: " فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها ، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدينا والصعود ، ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيّام ، ولم تصف له إلا أربعة عشر يوماً ، فسبحان ذي العزّة القائمة ، والمملكة الدائمة ، لا إله إلا هو" .
فهذا هو حال الدنيا ، لا تصفو لأحد ، كما أخبرنا ربنا عزوجل : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) ، ومن قدر الله على الإنسان في هذه الدنيا تسلط المنغصات والهموم والأحزان عليه ، فمهما كان الإنسان منعما في هذه الدنيا سيجد فيها شيئا من الهم والغم ، فليست جميع أيام الدنيا أيام صفاء وسرور ، وكم خلف ابتسامات بعض الأشخاص من آلام وأحزان لا يعلم بها إلا الله جل جلاله ، ولكنهم تسلحوا بسلاح الصبر فلم يُظهروا الجزع واليأس والقنوط ، وإنما أظهروا الصبر والاحتساب ، والرضى بالقضاء والقدر ، فتمكنوا من تجاوز هذه الأحزان والهموم ، وليست الأحزان كما يتصور البعض ضربا من الألم الناشئ بسبب التنعم الزائد ، فكم من مبتلى بعظيم الابتلاء لا تسمع له أي كلمة في التوجع والتألم بل لعلك تراه مبتسما ، يظهر حمد الله والثناء عليه في كل موقف ، فيظنه من يراه بأنه يعيش حياة باذخة في السعادة والهناء والصفاء! وهذا الصبر لا يتيسر لأي أحد وإنما يتيسر على من امتلأ قلبه بحب الله والسعادة به والأنس بمناجاته ، وكان حقا وصدقا من أهل الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره ، فهذه الابتلاءات تجعل الإنسان في بعد عن التعلق بالدنيا ، فلم يتقاطع الأرحام والأهل والأصحاب ؟ من أجل دينا فانية زائلة ؟!
ومن عرف حال الدنيا لم يجعلها في قلبه وإنما يجعلها في يده ، فتجده من أكثر الناس مسامحة وعفوا عن الآخرين ، وهذه هي حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، فكم مر عليه من بلاء وبلاء ولكنه كان كاسمه : ( محمد وأحمد ) فهو أكثر الخلق حمدا لله تعالى في جميع الأحوال ، فكن كذلك تكن من أهل السعادة والتوفيق ، ومن نظر في حال أهل البلاء علم صدق المثل الجميل : ( من شاف بلوى الناس هانت بلاويه ) ، فبعضهم يعاني من مشاكل تافهة للغاية فتسود الدنيا في وجهه ، ولا تطيب له الحياة ، فلو فاتته ترقية في عمله مثلا فقد يصاب بيأس وينهك نفسه بالتفكير ، ولو تأمل في الأمر وقارن حاله بحال فقير يرى والده المريض يئن من شدة المرض وهو لا يملك لوالده الحبيب إلى قلبه العلاج بسبب فقره! فهنا يهون البلاء علينا ، ولو فتشنا في بعض أحزاننا لوجدنا أن سببها أمر يسير للغاية مقارنة بما يعانيه بعض الناس ومع هذا تجد منهم صبرا وثناء على الله ، فاللهم فرج هم المهمومين واكشف الكرب عنهم.


21 أبريل 2020

المنتقى من مصنفات ابن أبي الدنيا


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبنيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فأضع بين أيديكم أيها القراء الكرام جمعا لمجموعة من الآثار والأخبار في الزهد والرقائق والحِكم جمعتها من مصنفات الحافظ الكبير عبد اللَّه بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس، أبو بكر القرشي مولى بني أمية المعروف بابن أبي الدنيا ، والمتوفى سنة 281هـ
والجمع على شكل كتاب مصور PDF
سائلا الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء وأن يرفع درجته في الفردوس الأعلى من الجنة وأن يجمعنا جميعا بنبينا صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من العلماء الراسخين في الفردوس الأعلى من الجنة على سرر متقابلين...
اللهم آمين

لتحميل الكتاب يرجى التكرم بالضغط على هذا الرابط
رابط الكتاب

21 مارس 2019

من هو الحلاج؟



الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فهذه كتابة يسيرة حول شخصية غريبة تكلم عليها جمع من أهل العلم على اختلاف مذاهبهم العقدية والفقهية ، جمعت شيئا من أخبارها ليكون التصور عنها شاملا وواضحا بإذن الله تعالى... وأتمنى منك أيها القارئ الكريم أن تقرأ في هذه السطور بعض الجوانب المتعلقة بشخصية الحلاج وسيرته ، ولتحكم بنفسك هل تميزت شخصيته بالعقل والحكمة والإبداع وقدمت للناس ما فيه نفع وخير أم كانت شخصيته على خلاف ذلك؟!
وجعلت المقال على شكل نقاط رئيسة وتحت كل نقطة اذكر شيئا من كلام أهل العلم ، وقد آن أوان الشروع في المقصود فاللهم أعن ويسر يا كريم:
[ اسمه وبدايته ]
1-قال عبدالقاهر البغدادي في الفرق بين الفرق : وأما الحلاجية فمنسوبون إلى أبي المغيث الحسين بن منصور المعروف بالحلاج ، وكان من أرض فارس من مدينة يقال لها : البيضاء ، وكان في بدء امره مشغولا بكلام الصوفية ، وكانت عباراته حينئذ من الجنس الذى تسميه الصوفية الشطح وهو الذي يحتمل معنيين : أحدهما حسن محمود والآخر قبيح مذموم ، وكان يدعي أنواع العلوم على الخصوص والعموم ، وافتتن به قوم من أهل بغداد ، وقوم من أهل طالقان خراسان ، وقد اختلف فيه المتكلمون والفقهاء والصوفية ، أما المتكلمون فأكثرهم على تكفيره وعلى أنه كان على مذاهب الحلولية...
2-قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : الحسين بن منصور الحلاج يكنى أبا مغيث، وقيل: أبا عبد الله ، وكان جده مجوسيا اسمه محمي من أهل بيضاء فارس.
نشأ الحسين بواسط ، وقيل: بتستر، وقدم بغداد، فخالط الصوفية، وصحب من مشيختهم الجنيد بن محمد، وأبا الحسين النوري، وعمرو المكي.
والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى الحلاج أن يكون منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني.
ومن نفاه عن الصوفية نسبه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقده، وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه، ويغلون فيه.
[ الحلاج والجرأة على الله ]
1-قال الحلاج  في ديوانه :
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوْتُهُ ... سِرَّ سَنَا لاَهُوتِه الثَّاقِبِ
ثُمَّ بدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِراً ... فِي صُوْرَةِ الآكِلِ وَالشَّارِبِ
حَتَّى لَقَدْ عَايَنَهُ خَلْقُهُ ... كَلَحْظَةِ الحَاجِبِ بِالحَاجِبِ
2-وقال في ديوانه أيضا :
رأيت ربي بعين قلب ...فقلت من أنت قال أنتَ
3-وقال في ديوانه :
ألا أبلغ أحبائي بأني ... ركبت البحر وانكسر السفينه
على دين الصليب يكون موتي ... ولا البطحا أريد ولا المدينة
4-وقال أيضا :
لست بالتوحيد ألهو ... غير أني عنه أسهو
كيف أسهو كيف ألهو ... وصحيح أنني هو
5-ويقول في كتابه الطواسين :
جحودي فيك تقديس ... وعقلي فيك تقديس
وما آدم إلاك ... ومن في البين إبليس
6-ونقل أبوحامد الغزالي في كتابه الرد الجميل أنه قال : أنا الله وما في الجبة إلا الله!
7-وقال القاضي عياض في الشفا : وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية ، والقول بالحلول وقوله :أنا الحق.
[ الحلاج والسحر ]
1-قال ابن النديم في الفهرست : قرأت بخط أبي الحسين عبيدالله بن أحمد بن أبي طاهر طيفور : كان رجلا محتالا مشعبذا يتعاطى مذاهب الصوفية يتحلى ألفاظهم ويدعي كل علم ، وكان صفرا من ذلك وكان يعرف شيئا من صناعة الكيمياء.
2-قال المعري في رسالة الغفران : وأدل رتب الحلاج أن يكون شعوذيا ، لا ثاقب الفهم ولا أحوذيا ، على أن الصوفية تعظمه منهم طائفة ، ما هي لأمره شائفة.
3-وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بإسناده إلى علي بن أحمد الحاسب قال : سمعت والدي يقول : وجهني المعتضد إلى الهند لأمور أتعرفها ليقف عليها وكان معي في السفينة رجل يعرف بالحسين بن منصور ، وكان حسن العشرة طيب الصحبة ، فلما خرجنا من المركب ونحن على الساحل والحمالون ينقلون الثياب من المركب إلى الشط ، فقلت له : أيش جئت إلى هاهنا ؟ قال : جئت لأتعلم السحر وأدعو الخلق إلى الله تعالى !
[ الحلاج والإخبار عن الغيب ]
روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن ابن الحلاج حمد أنه قال عن والده : وكان يتكلم على أسرار الناس وما في قلوبهم ، ويخبر عنها فسمي بذلك حلاج الأسرار ، فصار الحلاج لقبه.
[ الحلاج والتلون ]
1-قال التنوخي في نشوار المحاضرة : حدّثني أبو الحسن بن الأزرق قال: لما قدم الحلّاج بغداد يدعو، استغوى كثيرا من الناس، والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى، لدخوله من طريقهم...
2-وقال أيضا: وقال لي أبو الحسن: وكان الحلّاج يدعو كلّ قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل، على حسب ما يستَبِله طائفة طائفة.
3-قال ابن الجوزي في المنتظم: قال أبوبكر الصولي : قد رأيت الحلاج وجالسته ، فرأيت جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وفاجرا يتزهد، وكان ظاهره أنه ناسك صوفي، فإذا علم أن أهل بلدة يرون الاعتزال صار معتزليا، أو يرون الإمامة صار إماميا، وأراهم أن عنده علما من إمامتهم، أو رأى أهل السنة صار سنيا ، وكان خفيف الحركة مشعبذا، قد عالج الطب، وجرب الكيمياء، وكان مع جهله خبيثا، وكان يتنقل في البلدان.
[ الحلاج وتحريف الشريعة ]
قال التنوخي في نشوار المحاضرة : وحدّثني أبو الحسين بن عيّاش عمن حضر مجلس حامد ابن العباس الوزير وقد جاءوا بدفاتر وجدت للحلّاج، فيها:
إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ فإنّه يستغني عنه، بأن يعمد إلى بيت من داره، فيعمل فيه محرابا ذكره، ويغتسل ويحرم ويقول كذا، ويفعل كذا، ويصلّي كذا، ويقرأ كذا، ويطوف بهذا البيت كذا، ويسبّح كذا، ويصنع كذا، أشياء قد رتّبها وذكرها من كلام نفسه، قال: فإذا فرغ من ذلك، فقد سقط عنه الحجّ إلى بيت الله الحرام.
وهذا شيء معروف عند الحلّاجيّة، وقد اعترف لي رجل منهم، يقال إنّه عالم لهم، ولكن ذكر أنّ هذا رواه الحلّاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم، وقال : ليس عندنا إنّه يستغنى به عن الحجّ، ولكنّه يقوم مقامه، إن لم يقدر على الخروج، بإضاقة أو منع أو علّة، فأعطاني المعنى، وخالف في العبارة.
قال لي أبو الحسين: فسئل الحلّاج عن هذا، وكان عنده إنّه لا يوجب عليه شيئا، فأقرّ به، وقال: هذا شيء رويته كما سمعته...
[ خطورة دعوة الحلاج ]
2-قال ابن النديم في الفهرست: قرأت بخط أبي الحسين عبيدالله بن أحمد بن أبي طاهر طيفور :... وكان جاهلا مقداما متدهورا جسورا على السلاطين ، مرتكبا للعظائم ، يروم إقلاب الدول.
[ الحلاج والحُكم ]
1-ذكر التنوخي في نشوار المحاضرة : أخبرني بعض أصحابه من الكتّاب، قال: خرج له توقيع إلى بعض دعاته، تلاه عليّ، فحفظت منه قوله فيه: وقد آن الآن أوانك، للدولة الغرّاء، الفاطميّة الزهراء، المحفوفة بأهل الأرض والسماء، وأذن للفئة الظاهرة، مع قوة ضعفها في الخروج إلى خراسان، ليكشف الحقّ قناعه، ويبسط العدل باعه.
2-نقل ابن خلكان في وفيات الأعيان عن الجويني في كتابه الشامل : إن هؤلاء الثلاثة تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها، وارتاد كل واحد منهم قُطراً: أما الجنابي فأكناف الأحساء، وابن المقفع توغل في أطراف بلاد الترك، وارتاد الحلاج قُطر بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع.
[ من اعتقاد أصحاب الحلاج فيه ]
1-قال التنوخي في نشوار المحاضرة : وأهل مقالته الآن يعتقدون أنّ اللاهوت الذي كان حالّا فيه حلّ في ابن له بتستر.
2-قال المعري في رسالة الغفران : وفي الصوفية إلى اليوم من يرفع شأنه ، ويجعل مع النجم مكانه ، وبلغني أن ببغداد قوما ينتظرون خروجه وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة يتوقعون ظهوره ، وليس ذلك ببدع من جهل الناس.
3-ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن بعض أتباع الحلاج حضر في مجلس فأحضر له في المجلس شيء غريب فسئل عنه " فدافعه الجواب واستعفاه منه ، وألح عليه في السؤال فعرّفه أن تلك القدر رجيع الحلاج ، وأنه يُستشفى به ، وأن الذي في القوارير بوله!! ".
[ ادعاء الألوهية ]
1-قال أبو العلاء المعري في رسالة الغفران : وكان في كتبه : إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود.
2-قال ابن مسكويه في كتابه تجارب الأمم : وظهر عنه بالأهواز وبمدينة السلام أنّه ادّعى أنّه إله وأنّه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف من الناس.
3-وقال عبدالقاهر البغدادي في الفرق بين الفرق : والذين نسبوه إلى الكفر وإلى دين الحلولية حكوا عليه أنه قال:  من هذب نفسه في الطاعة وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى مقام المقربين ، ثم لا يزال يصفو ويرتقى في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية ، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى بن مريم ، ولم يرد حينئذ شيئا إلا كان كما أراد ، وكان جميع فعله فعل الله تعالى ، وزعموا أن الحلاج ادعى لنفسه هذه الرتبة ، وذكر أنه ظفروا بكتب له إلى اتباعه عنوانها : من الهو الذي هو رب الأرباب المتصور في كل صورة إلى عبده فلان ، فظفروا بكتب اتباعه إليه وفيها : يا ذات الذات ومنتهى غاية الشهوات ، نشهد أنك المتصور في كل زمان بصورة ، وفي زماننا هذا بصورة الحسين بن منصور ، ونحن نستجير لك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب.
4-وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بسنده أن ابنة الحلاج قالت لزوجة أخيها : اسجدي له [ أي للحلاج ] فقلت لها : أو يسجد أحد لغير الله ؟ وسمع كلامي لها ، فقال : نعم ، إله في السماء وإله في الأرض.
[ الحلاج والقرآن ]
قال عبدالقاهر البغدادي في الفرق بين الفرق : وقال عمرو بن عثمان : كنت أماشيه يوما فقرأت شيئا من القرآن ، فقال : يمكنني أن أقول مثل هذا.
[ من عظائم الحلاج ]
1-قال ابن النديم في الفهرست : يدعي عند أصحابه الإلهية ، ويقول بالحلول ، ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفية للعامة ، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلّت فيه ، وأنه هو هو ، تعالى الله جل وتقدس عما يقول هؤلاء علوا كبيرا .
2-روى الخطيب البغدادي بسنده في تاريخ بغداد : قال أبو بكر بن حمشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار ، ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه : من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان ، فوجه إلى بغداد، قال: فأحضِر، وعُرض عليه، فقال: هذا خطي وأنا كتبته.
فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية؟ فقال: ما أدعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله، وأنا واليد فيه آلة !
[ الحلاج وزعم العودة للدنيا بعد الموت ]
روى الخطيب البغدادي بسنده في تاريخ بغداد عن أبي عمر بن حيويه : لما أخرج حسين الحلاج ليُقتل مضيتُ في جملة الناس ، ولم أزل أزاحم حتى رأيته ، فقال لأصحابه : لا يهولنكم هذا ، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ، ثم قُتل.
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان : رواها عنه عبيدالله بن أحمد الصيرفي وإسنادها صحيح.
[ انكشاف أمره للناس ]
روى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي يعقوب الأقطع قال : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده ، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر.
[ من جهل الحلاج ]
1-في كتاب أخبار الحلاج لعلي بن أنجب البغدادي أن إبراهيم بن فاتك دخل على الحلاج فقال له : يا بنيّ ، إن بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولاية ، والذين يشهدون عليّ بالكفر أحب إليّ وإلى الله من الذين يقرون لي بالولاية.
فقلت : يا شيخ ولم ذلك؟
فقال : لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي ، والذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم ، ومن تعصب لدينه أحب إلى الله ممن أحسن الظن بأحد!
2-وفي كتاب ابن أنجب البغدادي أيضا أن الحلاج قال : لو ألقي مما في قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت ، وإني لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار ، ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها!
3-وفي كتابه أيضا : عن عثمان بن معاوية أنه قال : بات الحلاج في جامع دينور ومعه جماعة فسأله واحد منهم ، وقال : يا شيخ ما تقول فيما قال فرعون ؟ قال : كلمة حق ، فقال : ما تقول فيما قال موسى ؟ قال : كلمة حق ، لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما جرتا في الأزل!
4-كتابه أيضا عن الحلاج أنه قال :الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم ، وأما من حيث الحقيقة فلا فرق بينهما!
[ فائدة ]
التزمت في هذه الكتابة أني لا أنقل شيئا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حول شخصية الحلاج ، مع أن له رسائل حول الحلاج كما في جامع المسائل ( الطبعة الثانية ) : المجموعة الرابعة 4/384 والسابعة 7/ 452 وفي ثنايا كتبه كلام كثير حول الحلاج ، وسبب عدم نقلي عن ابن تيمية لبيان أن كلام الأئمة على الحلاج قبل ابن تيمية بقرون.
[ فائدة ]
من أعلم الناس بالحلاج ومقالاته ابن الجوزي البغدادي رحمه الله ، فقد جمع في أخباره كتابا مستقلا ، قال رحمه الله في تلبيس إبليس : وقد تعصب للحلاج جماعة من الصوفية جهلا منهم وقلة مبالاة بإجماع الفقهاء ... وقد جمعت في أخبار الحلاج كتابا بينت فيه حيله ومخاريقه ، وما قال العلماء فيه ، والله المعين على قمع الجهال.
[ الخاتمة ]
فهذه نبذة يسيرة عن حال الحلاج توضح بجلاء ووضوح بُعد هذه الشخصية عن العقيدة الإسلامية الصحيحة ، وأن لديه تطلعات لأمور الحكم والملك وقلب الدول ، بالإضافة إلى تطاوله على رب العزة جل جلاله مع تعلم السحر والشعوذة والدجل ...
اللهم يا كريم جنبنا الفتن والزلل وثبت قلوبنا على دينك

الحلاج والفكر الثوري


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، والصلاة والسلام على نبينا الكريم محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فالمتأمل في بعض الشخصيات القلقة وبرزوها في التاريخ الإسلامي قد تظهر له جوانب أخرى في حياتها ، خاصة إذا درس فكرها وتوجهها من زاوية مختلفة ، ومن هذه الشخصيات القلقة: الحسين بن منصور الحلاج والمقتول سنة 309هـ فبالإضافة إلى شطحاته العظيمة فأهل العلم ينبهون على انحراف فكري خطير عند الحلاج ألا وهو النزعة الثورية في حياته ، ومن الذين نبهوا على النزعة الثورية عند الحلاج وطمعه في استمالة بعض الفرق إليه القاضي التنوخي في كتابه نشوار المحاضرة فقال : " حدّثني أبو الحسن بن الأزرق قال: لما قدم الحلّاج بغداد يدعو، استغوى كثيرا من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى، لدخوله من طريقهم...".
واتبع الحلاج طريقة خاصة في دعوة الفرق الضالة إلى فكره ومنهجه ، وهذه الطريقة تشبه طريقة دعوية تتبعها بعض جماعات التطرف في أيامنا ، خاصة تلك التي تدعو إلى قاعدتها المشهورة : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) مما يبين أن المسألة ليست دعوة مزعومة إلى الزهد والعبادة ، قال التنوخي في نشوار المحاضرة : " وقال لي أبو الحسن: وكان الحلّاج يدعو كلّ قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل، على حسب ما يستَبِله طائفة طائفة " ووضح الصولي طريقة الحلاج في التلون فقال : " قد رأيت الحلاج وجالسته ، فرأيت جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وفاجرا يتزهد، وكان ظاهره أنه ناسك صوفي، فإذا علم أن أهل بلدة يرون الاعتزال صار معتزليا، أو يرون الإمامة صار إماميا، وأراهم أن عنده علما من إمامتهم، أو رأى أهل السنة صار سنيا ، وكان خفيف الحركة مشعبذا، قد عالج الطب، وجرب الكيمياء، وكان مع جهله خبيثا، وكان يتنقل في البلدان ".
واتبع الحلاج أيضا أسلوب الإغلاظ على الولاة والسلاطين وهذا الأسلوب يستهوي العامة والغوغاء ، وله عواقب وخيمة على أمن الشعوب والبلدان قال ابن النديم في الفهرست عند حديثه عن الحلاج: " قرأت بخط أبي الحسين عبيدالله بن أحمد بن أبي طاهر طيفور :... وكان جاهلا مقداما مُتدَهورا جسورا على السلاطين ، مرتكبا للعظائم ، يروم إقلاب الدول ".
وكان يبعث دعاته إلى الآفاق والبلدان وهذا يشبه عمل التنظيمات السرية المعاصرة في الدعوة المنظمة إلى فكرها المنحرف ، ذكر التنوخي في نشوار المحاضرة : " أخبرني بعض أصحابه من الكتّاب، قال: خرج له توقيع إلى بعض دعاته، تلاه عليّ، فحفظت منه قوله فيه:
وقد آن الآن أوانك، للدولة الغرّاء، الفاطميّة الزهراء، المحفوفة بأهل الأرض والسماء، وأذن للفئة الظاهرة، مع قوة ضعفها في الخروج إلى خراسان، ليكشف الحقّ قناعه، ويبسط العدل باعه ".
وممن وصف الفكر الثوري للحلاج وشخصه جيدا أبو المعالي الجويني الشافعي فنقل عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان أنه قال في كتابه الشامل : " إن هؤلاء الثلاثة تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها، وارتاد كل واحد منهم قُطراً... وارتاد الحلاج قُطْر بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع " وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه لما ألقي القبض عليه وجدوا معه كتبا ورقاعا فيها أشياء مرموزة ونودي : " هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه " وذكر ابن الجوزي أن الحلاج كان يدعو في أول أمره إلى الرضا من آل محمد! وابن الجوزي خبير بمقالات الحلاج وفكره ، وله كتاب مستقل جمع فيه أخبار الحلاج ، قال رحمه الله في تلبيس إبليس: " وقد جمعت في أخبار الحلاج كتابا بينت فيه حيله ومخاريقه وما قال العلماء فيه ".
ومما يؤكد أن دعوة الحلاج ليست دعوة إلى التصوف والزهد والحب والتسامح أن اتباعه غلو فيه غلوا عظيما ، قال المعري في رسالة الغفران : " وفي الصوفية إلى اليوم من يرفع شانه ، ويجعل مع النجم مكانه ، وبلغني أن ببغداد قوما ينتظرون خروجه وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة يتوقعون ظهوره ، وليس ذلك ببدع من جهل الناس " فأصحابه يزعمون أنه سيعود للدنيا مرة أخرى بعد موته !
وليس هذا الغلو بعجيب على من نشر فكره المنحرف بين الناس فدعاهم إلى أمور تناقض العقيدة الإسلامية فاتبعه بعض الدهماء على ذلك ، قال ابن النديم في الفهرست : " يدعي عند أصحابه الإلهية ، ويقول بالحلول ، ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفية للعامة ، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه ، وأنه هو هو ، تعالى الله جل وتقدس عما يقول هؤلاء علوا كبيرا " بل قال الحلاج لأصحابه قبيل قتله : " لا يهولنكم هذا ، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ".
ولشدة خطره قام بعض الوزراء بتنبيه الخليفة العباسي المقتدر إلى خطورة دعوة الحلاج فقال له : " يا أمير المؤمنين: إنْ بقي، قلَب الشريعة، وارتدّ خلق على يده، وأدّى ذلك إلى زوال سلطانك...".
ومما يؤكد أيضا خطورة فكر الحلاج كتابة مطولة عن فكره وتاريخه ذكرها كاتب عراقي معاصر أغرم بحب الحلاج حتى لقب بحلاج بغداد! ألا وهو الدكتور كامل مصطفى الشيبي فقال كتابه الصلة بين التصوف والتشيع : " لكن الذي يعنينا من ولاية الحلاج اتصاله بالتشيع وسنرى أنه كان على صلة وثيقة جدا بمذاهبهم ومشاربهم ... وقد عقد أنصار الحلاج من الصوفية صلة بينه وبين الحسين بن علي وقرنوا شهادة الحسين بقتل الحلاج في قولهم : لما وقع دمه على الأرض كتب : الله الله ...
ولم يكن أمر الصلة بين الحلاج والتشيع مقصورا على التداخل بين كلامه وكلام الأئمة وإنما كان مطلعا على مذاهب التشيع كلها ، وقد استخدمها كلها في بناء مذهبه الحلولي الجديد الذي يشير إلى ظهور حركة غلو جديدة في مطلع القرن الرابع الهجري ، والحلاج هو القائل بعد شرحه للظاهر والباطن : ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة ، وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده وأنا الآن على ذلك.
ونحن لهذا واجدون عند الحلاج كل مشارب الشيعة المعاصرين له والسابقين...
أما علاقته بالاثنا عشرية فتنعكس مما رواه الطوسي من أن الحلاج صار إلى قم البلد الشيعي القديم ، وكاتبَ قرابةَ أبي الحسن النوبختي الشيعي يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضا ويقول : أنا رسول الإمام ووكيله ، فطرده ابن بابويه علي بن الحسين بن موسى من داره.
ويجب أن نتذكر هنا أن الحلاج قد ظهر في أثناء غيبة مهدي الاثني عشرية ، وكان في زمن السفارة التي أشرنا إليها ، وهو هنا يريد أن يكون وكيلا للمهدي المنتظر ، وقد بين لنا القاضي التنوخي أن الحلاج في دعواه كان طمعه في الرافضة الشيعة أقوى لدخوله من طريقهم.
وتلك إشارة صريحة في اتصال الحلاج بالتشيع ، ثم روى لنا القاضي التنوخي أنه راسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه.
ويذكر لنا ابن زنجي مشربا إسماعيليا ظاهرا في الحلاج ، وذلك أنه وجد بين أوراقه وثائق تثبت صلته بالإسماعيلية " وكان في الكتب الموجودة عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إلى النواحي : توصيهم بما يدعو الناس ويأمرهم به من نقلهم من حال إلى أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى ، وأن يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم" تلك هي مراتب الإسماعيلية التي مرت بنا ، وتلك طريقتهم في بث دعوتهم كما لا يخفى.
وكان بين الأوراق أيضا كتاب فيه " صورة فيها اسم الله مكتوب على تعويج ، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب : علي عليه السلام . كتابة لا يقف عليها إلا من تأملها " وتلك أسرار الإسماعيلية وأسلوبهم في نشر الدعوة ، وقد كانت إسماعيلية الحلاج وثبوت اتصاله بالقرامطة الذين هم إسماعيلية السبب المباشر في قتله ، وكانت إحدى التهم التي قُتل الحلاج من أجلها تتضمن إنكار الحلاج للحج إلى مكة بالذات ، ودعوته إلى الحج القائم على النية الخالصة والتوجه القلبي ...هذه من الإسماعيلية بالذات...
وقد أضاف الشيعة أنفسهم الحلاج إلى التشيع ولكنهم جعلوه على لسان الشيخ المفيد من المفوضة القائلين بأن الله خلق محمد ثم فوض إليه تدبير العالم ثم فوض محمد تدبير العالم إلى علي بن أبي طالب...
ومهما يكن من أمر الحلاج فقد مر بكل ما مر به الأئمة من أدوار ، وأضيف إليه كل ما أضيف إليهم : كان علمه لدنيا وكان مطلعا على اسم الله الأعظم ، وكان ممارسا للكيمياء والسيمياء وما لابسهما ، وكان قطبا وحجة وكان إلها ، وعاد في النهاية مهديا ، فأي صلة بعد أوثق من هذه الصلة بين ولايته وبين الإمامة ". انتهى كلامه.
 وختاما : يصف عدد من المعاصرين فكر الحلاج بأنه فكر قاوم سلطة الاستبداد والحكام الظلمة في زمانه ، فيرونه رمزا للثورة على الولاة والأمراء الظلمة ، لذلك يثنون على فكره وطريقته ويرون في قتله مصادرة ظالمة من الطغاة لحرية الآراء والأفكار بل قال صاحب رواية معروفة عن الحلاج وفازت بعدة جوائز : " هو رجل ذهب ضحية استبداد الحكام "، وكتبت ميسون ابنة المنحرف المعروف طارق السويدان تغريدة تثني فيها على الحلاج وتتهم بعض الناس بقتل الحلاج فتقول في تغريدة لها في تويتر : " أنتم قتلتم الحلاج ... أنتم قتلتم الروحانية في مكة .. أنتم قتلتم الله في قلوب الناس.. أنتم شوهتم دين الله ألا شاهت وجوهكم ، ويل للمكفرين" ولا أدري هل تقصد بهذه الكلمات آل سعود أم تقصد أمورا أخرى !
واهتمام عدد من الغربيين بالحلاج ليس من أجل فكره الفلسفي عن الحب الإلهي وغيره بل لاعتباره شخصية عظيمة في مجال محاربة الاستبداد والظلم وقهر الولاة ، بل صرح المستشرق الفرنسي ماسينون وهو الذي اعتنى بكتب الحلاج عناية عظيمة بأن الحلاج واجه ظلم الولاة والحكام في زمانه...
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...

28 سبتمبر 2018

لا تهجروه


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، والصلاة والسلام على سيد الثقلين وعلى آله وصحبه الكرام الطيبين أما بعد :
فقد قرأت قبل أيام تغريدة لأحد الكرام ذكر أنه تيسر له خلال عشر سنوات ختم القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، وهذه تجربة جميلة تؤكد على أهمية التعلق بكلام الله تعالى والإكثار من تلاوته ، فالأيام تمضي والأعمار تذهب ، ومن أعظم أنواع الطاعات التي ينبغي علينا أن ننشغل بها تلاوة القرآن الكريم ، فالله تعالى وصف كلامه العظيم في آيات كثيرة من القرآن فقال : ( الله نزل أحسن الحديث ) وقال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ) وقال : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) وقال أيضا عن القرآن العظيم : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ، فتلاوة القرآن من أسباب السعادة والطمأنينة ، فكم تتعب النفوس ركضا وراء مشاغل الدنيا فهي تحتاج إلى راحة من صخب الحياة وضجيجها فعليها أن تقبل على القرآن في أوقات نبتعد فيها عن الصوارف والمشاغل ثم لننظر إلى أثر هذه التلاوة على النفوس المتعبة ، خاصة لو قرأنا القرآن بتدبر وتفكر مطبقين قول الله تعالى : ( ورتل القرآن ترتيلا ) ، بل بعضهم إذا ابتعد عن تلاوة القرآن ثم أخذ المصحف بيديه وقرأ يتأثر وتدمع عيناه تعظيما وإجلالا لله تعالى ، فهذا من جميل أثر تلاوة القرآن الكريم على النفس.
وتأملوا رعاكم الله في شدة عناية النبي عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ، فكان يقرأ القرآن في الصلاة ويطيل في القراءة ، روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فافتتح البقرة ، فقلت : يركع عند المئة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة ، فمضى ، فقلت : يركع بها ، ثم افتتح النساء ، فقرأها ، ثم افتتح آل عمران ، فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ، ثم ركع ، فجعل يقول : سبحان ربي العظيم ، فكان ركوعه نحوا من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلا قريبا مما ركع ، ثم سجد ، فقال : سبحان ربي الأعلى ، فكان سجوده قريبا من قيامه.
وهذه التلاوة الطويلة في جزء من اليوم فقط ! فكم كان يقرأ في اليوم والليلة ؟! بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
ومن عنايته بتلاوة القرآن الكريم أنه كان يقرأ بآيات كثيرة عند النوم فروى الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ سورة السجد وتبارك ، وروى الترمذي أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ سورة الإسراء والزمر ، ومن شدة حبه لكلام الله تعالى يطلب من الصحابة الكرام أن يقرؤوا القرآن ويستمع إلى قراءتهم ويتأثر بسماع القرآن فعند البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له : اقرأ علي ، قال: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ، قال: فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فبكى.
فقرأ ابن مسعود رضي الله عنه على النبي عليه الصلاة والسلام قرابة تسعة أوجه من سورة النساء ، والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع لتلاوة هذا الصحابي الجليل ، فعلينا أن نقتدي بنبينا عليه الصلاة والسلام في الحرص على تلاوة كلام الله تعالى.
ولو صرفنا همتنا في تلاوة القرآن لتغيرت أحوالنا وأحوال بيوتنا ومن جميل آثار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قول أبي هريرة رضي الله عنه : إن البيت ليتسع على أهله وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويكثر خيره أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين، ويقل خيره أن لا يقرأ فيه القرآن. رواه الدرامي موقوفا عليه ، وصدق رضي الله عنه فتلاوة القرآن من أعظم أسباب البركة والخير ، وقد نفقد البركة في بيوتنا بسبب التقصير في التلاوة ، فهل ستكون البركة عظيمة وبعض بيوتنا قد تمضي الأسابيع على جميع أفراد الأسرة ولم يفتح أحدهم المصحف لقراءة وجه واحد من القرآن ؟! فهل عرفنا سبب قلة البركة وضيق الصدر وعدم الراحة والسعادة ؟!
ومن تقصيرنا في تلاوة القرآن أننا نجد أوقاتا كثيرة لفعل كل شيء بل قد نشتكي من فراغ قاتل في بعض الأحيان ولا نفكر في استغلال الوقت في تلاوة القرآن مع أن الختمة الواحدة من القرآن قد يُكتب لنا بسببها أكثر من ثلاثمائة ألف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها والله يضاعف لمن يشاء ، والإمام أحمد بن حنبل على كثرة انشغاله بمسائل العلم والتعليم قال عنه ابنه عبدالله : كان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين، وكان يقرأ في كل يوما سُبْعا، يختم في كل سبعة أيام.
أليس من الحرمان العظيم أننا نهدر أوقاتا كثيرة في التردد على مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها وتمضي علينا الساعات في تصفحها ونستثقل قراءة وجه واحد من المصحف الشريف ! قال عثمان بن عفان رضي الله عنه كما روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة : " لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله عز وجل ".
فلنجعل لنا وردا يوميا من القرآن الكريم لا نتركه في حضر أو سفر ، وحبذا لو قرأنا في كل يوم جزءا من القرآن الكريم أو أكثر من ذلك إن تيسر لنا ، ومن كانت همته عالية فليجعل له هدفا يسعى إليه بكل قوة ألا وهو حفظ القرآن الكريم ، فاللهم اجعلنا ممن اعتنى بكتابك وأقبل على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.