الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فمن المعضلات
الكبرى التي تواجه مختلف الدول والحكومات في أيامنا مشكلة التطرف والغلو والتشدد ،
وهذه المشكلة ليست وليدة هذه الأحداث التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية ،
وإنما هي مشكلة قديمة معروفة عبر التاريخ ، وهي مشكلة لا تتعلق بالمسلمين فقط ،
ففي الديانات الأخرى جماعات ونزعات واضحة للتطرف والغلو والميل لسفك الدماء ، ومن
أراد الوقوف على نماذج من ذلك فليراجع ما كتبه المؤرخ المصري الكبير محمد عبدالله
عنان في كتابه : تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق ، ولعلاج مشكلة
التطرف لابد أولا من دراسة الأسباب المؤدية إليه ، حتى نتمكن بإذن الله من وقاية
المجتمعات بأكبر قدر ممكن هذه الأفكار المتطرفة ، والتي تقودها في هذه الأيام فرق
وجماعات تولدت من تنظيم القاعدة المعروف بالتطرف ، وهذه الفرق المختلفة كداعش
والنصرة وغيرها لها صلة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين ، والتي تميل عن المنهج
الوسطي القويم المبني على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بفهم العلماء
والأئمة ، فمن أقبح آثار التطرف والغلو وجود فتنة التكفير وإراقة دماء الأبرياء
والاستهانة بالدماء والأموال المعصومة ، فكلنا يشاهد دموية تنظيم داعش وشدة ميلهم
لسفك الدماء والتقرب لله بإراقتها! فيا ترى كيف نجح هذا التنظيم الدموي في إقناع
شريحة من الشباب المتحمس بل وحتى بعض النساء بفكره الضال ؟!
إن الجواب على
هذا السؤال يقودنا لتحديد سبب مهم جدا للوقوع في التطرف والغلو ألا وهو الجهل وقلة
العلم الشرعي ، وهذا هو القاسم المشترك بين جميع الشباب الذين انخدعوا بتنظيمات
التطرف والغلو ، فبسبب قلة علمهم وثقافتهم الهشة يسهل تجنيدهم وغسل عقولهم ، دون
أدنى كلفة أو تعب ، فمقطع واحد من مقاطع اليوتيوب قد تغرر بشاب في مقتبل العمر ،
فأعضاء هذه التنظيمات يبرعون في استغلال جهل الشباب وقلة علمهم ، ثم يطرحون فكرهم
المتطرف في قالب عاطفي بعبارات بلاغية قوية ومؤثرة ، مع مخاطبة لمشاعر شاب لا يملك
حصانة فكرية ، فهنا تكمن الخطورة الكبيرة على شبابنا ، خاصة وأننا نعيش في عصر
الإعلام الجديد ، فالوصول إلى عقل أي شاب أو فتاة في غاية السهولة ، وقادة هذه
التنظيمات يتبعون أسلوبا خبيثا في نشر فكرهم فقاعدتهم في التعامل مع الشباب : ( إن
لم تكن معنا فلا تكن ضدنا ) فتحييد عقول الشباب ضدهم هدف كبير لهذه التنظيمات ،
وسمة الجهل من أبرز سمات الخوارج على مر التاريخ ، فهم يتصورون الغلو دينا وأجرا ،
والتكفير المنفلت عبادة ، وتفجير النفس وقتلها وترويع الآمنين جهادا ، بسبب جهلهم
في الدين ، لذلك يمقتون العلماء مقتا عظيما ، لأنهم على علم بألاعبيهم وشبههم
وكيفية الرد عليها.
ومن أسباب
التطرف والغلو أيضا ابتعاد الشباب المتحمس عن العلماء ، فعواطفهم غير المنضبطة
تجاه بعض القضايا المؤلمة قد تقودهم إلى تطرف وغلو لا يعلم به إلا الله ، ومن
الكلمات الجميلة التي يرددها العلماء : ( العاطفة إن لم تقيد بالشرع أصبحت عاصفة )
، وهذا ما نراه بشكل واضح وجلي ، فمعظم من ينخدع بتنظيمات التطرف والتشدد لم يجلس
إلى العلماء ولا يعرف حلقاتهم ، فمن أكبر مصائد هذه التنظيمات إقناع الشباب خصوصا
بانحراف العلماء ، وهذه هي الخطوة الأولى ، ثم يقنعونهم بتكفير هؤلاء العلماء وأنهم عملاء للسلطان ، وبذلك يخلو لهم
الجو لنشر باطلهم ، والعجب من سذاجة بعض شبابنا حين يترك مجالس عالم مشهور بالورع
والعلم والصلاح والتقوى ، وينخدع بأسماء وهمية عبر مواقع التواصل تغرس في فكره
ميلا واضحا للتشدد وسفك الدماء ، وإذا اجتمع الجهل مع بعد عن العلماء وجرأة على
الدماء فهنا يصبح بعض الشباب دمية في يد قادة تنظمات الغلو ، فيلعبون بشبابنا كما
يحلو لهم ، ولهؤلاء القادة أسلوب آخر في صرف الشباب عن العلماء فهم يسلطون الضوء
على مجموعة لها أفكار تخالف أصول أهل السنة والجماعة ممن يتساهلون مع جماعات الغلو
، ولديهم ضبط لبعض مسائل العلم الأخرى ، ويخلعون عليهم ألقابا التفخيم والتبجيل ،
ويزهدون الناس في العلماء الراسخين وبذلك يصنعون للشباب المتحمس رموزا في العلم تقودهم
للهاوية ، والويل كل الويل لمن يحذر من هؤلاء الرموز ، فلحومهم مسمومة وأما لحوم
العلماء الكبار فحلال بلال! ، والبعد عن العلماء الراسخين يوقع الناشئة في تخبطات
واضحة ، وتكوين أفكار مغلوطة عن المسائل الشرعية ، فتختلط عليهم الأحكام الفقهية
المتعلقة بالجهاد وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لذلك قال سفيان الثوري :
" لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر وينهى ، رفيق بما يأمر
وينهى " فهذه المسائل تحتاج إلى علم ودراية ، ومن كان بعيدا عن العلماء فلن
يضبط هذه المسائل المهمة ، والفتن إن أقبلت عرفها العلماء وإذا أدبرت عرفها كل أحد
، لذلك لا نجد مع جماعات الغلو أي عالم ، فحالهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه
وسلم : " حدثاء الأسنان ، سفهام الأحلام " لذلك تعادي هذه الجماعات
العلماء ، فيصفونهم بأقبح الصفات ثم يقدمون للناشئة بديلا لا علم عنده ولا تمكن ،
فيفتون في مسائل عظيمة بجرأة ودم بارد ، فلا تصبح المسألة مجرد فكر متطرف بل تصبح
أفعالا متطرفة ، فتخرج من حيز الأفكار إلى واقع الأفعال ، وهذا الأمر يصرح به بعض
من تراجع عن أفكار الغلو ، فمن أعظم أساليبهم مكرا الطعن في العلماء وتخوين الأئمة
، فتسهل بعدها السيطرة على عقول الشباب.
ومن أسباب
التطرف والغلو : العمل في الخفاء وبعيدا عن الأنظار ، ومن الآثار المروية عن
الخلفية العادل عمر بن عبدالعزيز أنه قال : ( إذا رأيت قومًا يتناجون في دينهم
بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة ) ، فالعمل في الخفاء لغرس هذه
الأفكار ديدن هذه التنظيمات لمفاجأة الآباء والأمهات والحكومات بوجود شباب قد
اقتنعوا بالتطرف والغلو ، والعمل السري من أصول جماعات التطرف ، فنجد أن هذه
الجماعات وإن كانت على شكل أندية ثقافية أو اجتماعية ترفضا رفضا قاطعا أي دور رقابي
من مؤسسات الرقابة الحكومية ، ويكون عند قادتها تذمر شديد من ذلك بسبب وجود خفايا
يجب سترها ولا يحل كشفها ، وكم اكتشف بعض الشباب أنهم أعضاء في التنظيم السري
لجماعات التطرف بعد مرور وقت طويل ، ومن صور العمل السري عند جماعات الغلو القيام
برحلات فيها مبيت خارج المنزل ، أو سفر لخارج الدولة لبلدان يختارونها بعناية ،
وهناك يتم غرس هذه الأفكار في عقليات الشباب الصغار ، وقد يكون الأمر بيعة سرية
لقائد الجماعة أو الحزب.
وأنبه على طرح مهم مغلوط وجدت بعضهم يشير إليه
فيزعم أن السبب الرئيس لهذه الأفكار ظلم بعض الحكام ، وهذا أمر قد يكون من العوامل
المساعدة للوقوع في التطرف ولكنه ليس بالسبب الرئيس ، فالنبي صلى الله عليه وسلم
كان يحذر الصحابة من الغلو في الدين قائلا : " يا أيها الناس إياكم والغلو في
الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ، والصحابة الكرام مرت عليهم
فتن عظيمة ، ورأوا بعض الحكام الظلمة فكانوا يوصون الناس بالصبر وعدم الخروج عليهم
وترك الغلو والتطرف ، وفي التاريخ الإسلامي نجد أن بعض جماعات الخوارج خرجت على
الصحابة وهم خيرة الخلفاء والحكام في زمانهم ، فخرجوا على عثمان رضي الله عنه ،
وقاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج ، وقُتل على يد خارجي معروف ، وأيضا
نشاهد بعض الشباب ممن يعيشون في أوضاع مادية طيبة جدا ، وفي دول مشهورة بالعدل
وقلة الظلم يتبنون أفكار الغلو والتشدد ، فليست المسألة وقوع شيء من الظلم عليهم .
ومن الناس من
يتجه لهذه الجماعات ليفر من واقع الفشل الذي يعيشه ، وهذا من أعظم أسباب الميل
لجماعات التطرف في زماننا ، فبعد حياة مليئة بالذنوب والمعاصي يريد هذا الشاب
التائب أن يكفر عن ذنبه بأيسر طريق فيغلو في الدين ، ويريد أن يتخلص من هذه الحياة
فيفجر نفسه ، وقد أكد لي هذا الأمر بعض من يعرف أفرادا من جماعات التطرف ، فبعضهم
يريد حلا سريعا لماض مليء بالموبقات والمعاصي فتستغله جماعات الغلو لخدمة باطلها.
فمشكلة يجب أن
ندرس أسبابها ، وعلينا أيضا أن نوجد الحلول المناسبة لمواجهة هذه الأفكار ، فمن
الحلول المهمة جدا : إيجاد حصانة فكرية عند كافة شرائح المجتمع من هذه الأفكار
الضالة ، فقادة التطرف والغلو يخشون مواجهة من يعرف أفكارهم وضلالهم ، ويهابونه ،
ولا يمكن لهم مناقشته ، لأن باطلهم لا يقوم على دليل صحيح ولا عقل سليم ، فإذا عرف
الناس شرهم فسنواجه التطرف برأي عام في المجتمع يرفض الغلو والإرهاب ، فنشر السيرة
النبوية وطريقة الدعوة النبوية وشرح كتاب الإمارة من صحيح مسلم مثلا للناس من أنفع
أساليب تحصين المجتمع ، فإذا تكلم الداعشي معهم عن التكفير رد عليه الناس بذكر
النصوص المحذرة من التكفير دون مراعاة ضوابطه ، وإذا تكلم الإخونجي عن الخروج على
ولي الأمر المسلم رد عليه الناس بذكر النصوص الموجبة للسمع والطاعة والمحرمة
للخروج على ولي الأمر المسلم ، وبهذه الحصانة أيضا سيلاحظ الأب والأم وجود أي فكر
منحرف عند أبنائهم ، وكم شاهدت بعض العامة يردون على جماعات الغلو بردود مفحمة
بسبب ثقافة شرعية معتدلة تعلموها في يوم ما .
ومن طرق مواجهة
التطرف التركيز على الجانب الإعلامي بمختلف جوانبه ، فإذا كانت الجماعات المنحرفة
تستخدم الإعلام الجديد لنشر باطلها فلابد علينا من مواجهة هذه الجماعات بنفس
سلاحها ، وتكون هذه الحملات الإعلامية بإشراف حكومي مباشر ، فتُطبع الكتب ، وتُنشر
المقاطع ، وتكتب المقالات والتغريدات لمحاربة الغلو والتطرف ، وبهذا سيعرف الناس
الوجه القبيح والمظلم لتيارات الغلو وجماعات العنف وسفك الدماء ، وكذلك نستخدم هذه
الوسائل لإبراز محاسن الدولة وولاة أمرنا جزاهم الله خيرا ، والمشاريع الخيرية الكبيرة
التي تقوم بها الدولة ، فلو قام متطرف وتكلم على الدولة لعرف الناس كلهم أنه كاذب
، فهم يعرفون جهود ولاة الأمر في نشر الخير ، وإذا كانت هذه التنظيمات تنشط في
حلقات تحفيظ القرآن الكريم والمساجد في بعض الدول ، فلابد أيضا من مواجهة هذا
الفكر بعمل حكومي منظم في مجال تحفيظ القرآن الكريم وحلقات المساجد ، ومن أبرز هذه
المشاريع القيمة التي يمكن استغلالها لنشر الخير مشروع الشيخ زايد لتحفيظ القرآن
الكريم ومشروع مكتوم لتحفيظ القرآن الكريم بدبي ، فيتم من خلالهما توجيه الناشئة
بأسلوب يناسب ثقافتهم بضرورة الحذر من هذه الأفكار ، وإذا عرف الناس العلماء رجعوا
إليهم ولم يرجعوا للمجاهيل في تويتر وفيس بوك ومواقع التواصل الأخرى ، فربط الناس
بالعلماء الثقات ضروري جدا لمحاربة التطرف ، وعلى العلماء واجب محتم في تفنيد شبه الغلاة
، وبيان طريقة الدعوة إلى الله ، وأن الأسلوب الأمثل في الدعوة يقوم على الرحمة
والحكمة والموعظة الحسنة لا التطرف والغلو.
أصل
هذا المقال : مقالات نشرت في صحيفة الإمارات اليوم ، عدلتُ وأضفت عليها وجمعتها في
مقال واحد.